الدكرورى يكتب عن السيدة ليا (الجزء الثالث)
إعداد / محمـــد الدكـــرورى
إن الزوجة الصالحه هي أنثى بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بطهرها وعفافها وحجابها، وهي أنثى بحيائها وتواضعها وخُلقها الرفيع، فقد قَتل الكبرياء المزعوم كثيرا من الزوجات وأودى بهم إلى الهلاك، وهي التي استفادت من وصية أمامة بنت الحارث لابنتها حين تزوجها الحارث بن عمرو، وهي أيضا قد انتفعت مِن الإيجابية في تعامل أم حكيم المخزومية مع زوجها عكرمة بن أبي جهل، وهى التى تحسن استقبال زوجها وتوديعه، فهو عندها سيد مطاع في قومه، ولا بد له أن يحظى بالعناية والرعاية حين دخوله وخروجه من مملكته، وهى التى تملك قلب حماتها، باحترامها والسؤال عن أحوالها، واستشارتها أحيانا، وهي مجتهدة في تذكير زوجها ببر أمه، وإعطائها مِن الهدايا ما يفرحها، وهى التى ليست أنانة ولا حنانة، ولا منانة ولا حداقة، ولا براقة ولا شداقة، وهي المطيعة للأوامر، والمجتنبة للنواهي، وهي زوجة صبور تسعد بتلبية احتياجات زوجها، وترعاه بقلبها وقالبها تقوية للمودة، وإرساء للمحبة، وهي البشوش، وهى طلقة الوجه، ومشرقة الابتسامة.
فكلما عاد الزوج من عمله مرهقا، وجد وجهها وضاحا،
وثغرها باسما، وبهذا تزول أتعابه كلها ويرتاح بدخوله لبيته، ونكمل الجزء الثالث مع السيدة ليا زوجة نبى الله أيوب عليه السلام، وهى الزوجة الرحيمة الحنونة وهى تذكر دوما وبقوة وتعتبر مضربا للأمثال لامرأة اشتد بها البلاء وطال بها الشقاء فتعلمت الصبر حتى تعلم الصبر من شدة صبرها عليه، إنها السيدة ليا أو السيدة رحمة زوجة نبي الله أيوب عليه السلام وهو من الأنبياء المنصوص على الوحي إليهم فكان يأتيه وحي الله وروحه الأمين جبريل عليه السلام، وكان صاحب رسالة وأمانة لم يفرط فيهما أبدا فيقول تعالى في كتابه الكريم في سورة النساء (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب) وإن قصة نبي الله أيوب هي قصة الابتلاء والصبر والإنعام بعد ذلك والفضل وهي أيضا بمثابة دلائل لرحمة الله تعالى عز وجل، الذي يجزي من صبر ويعطي لمن شكر ويكافئ من ينجح في الاختبار ويصبر على هول الأقدار.
وقيل ان أم نبى الله أيوب عليه السلام هي ابنة نبي الله لوط عليهما السلام، وإنه من ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام، ويأتي ذلك في سورة الأنعام فيقول الله سبحانه وتعالى (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون) وكان أيوب رجلا كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه فكان لديه الأنعام والدواب والمواشي والعبيد والأراضي المتسعة والثروة الوفيرة وكان له زوجة جميلة ذات خلقة حسنة وشعر طويل كانت تجعله ضفيرتين جميلتين يضرب بهما الأمثال وقد اختلف العلماء في اسم زوجة نبى الله أيوب فمنهم من يقول ان اسمها ليا بنت يعقوب، وقيل إنها رحمة بنت أفراييم وهذا الاسم هو الأكثر شيوعا، وكان للسيدة رحمة ثلاثة عشر ولدا وكانت رفيعة القدر عالية المكانة يخدمها العبيد والخدم، ورغم شدة ثرائها ووفرة نعمة الله عليها لم يساورها الكبر أبدا ولا الغرور بل كان شكرها يزيد كلما تزيد نعم الله عليها.
ولكن الحياة لم تدم هكذا وبدأت الاختبارات تتوالى وبدأ أبناء السيدة رحمة يموتون واحدا تلو الآخر فماتوا جميعا وهي بذلك أكثر من مات لها من الأولاد وبدأت ثروة زوجها تتناقص حتى تلاشت وبدأت المواشي والدواب تنفق هي الأخرى وتموت وأصبحت الأرض الواسعة بورا فلم يعد هناك مال ولا طعام يكفيهم وابتعد الأهل والأصدقاء ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل بدأت علامات المرض الشديد تظهر على نبى الله أيوب حتى أقعده المرض ونال من كل أعضائه فلم يعد لديه سوى عضوين سليمين هما قلبه ولسانه أما سائر الأعضاء فأصيبت وتهتكت، ويرجح المفسرون أنه أصيب بمرض جلدي نادر أقرب ما يكون إلى مرض الجدري الآن، ومع قلة الدواء واشتداد الفقر ازداد المرض سوءا وشدة، فما هو موقف الزوجة هل حنقت وغضبت وتركت وفرت هاربة بشبابها وجمالها وتركت زوجها لمرضه، وإن كان الأمر كذلك لما خلد ذكراها.
وقد ضرب بها المثل في الصبر على الزوج ومرضه وعلى
الفقر
وشدته وعلى الذل بعد العزة، إنها فكرت ماذا تفعل هل تجوع هي وزوجها فلم يعد أحد يعطي لهما مالا ولا طعاما فوجدت أنه من غير المعقول أن يستمر الحال على ما هو عليه فقررت أن تعمل خادمة كي تجد المال الذي تطعم به زوجها ونفسها وهي السيدة المصانة التي كانت تخدم من أكثر من مئة خادمة ولكنها اختبارات الحياة فكانت السيدة ليا تعمل يوما طويلا شاقا وفي نهايته تأخذ مالا قليلا لا يكاد يكفي لشراء وجبة طعام واحدة تقسمها مع زوجها فيأكلان معا ويحمدان الله على ما رزقهما رغم قلته، ثم كانت بعد ذلك تعتني بزوجها وتصلح من شأنه وتعينه على قضاء حاجته ثم تفرش له فرشته التي لم تكن إلا رمادا أو رملا حتى ينام عليه وتنام هي أيضا حتى تستقبل يوما شاقا جديدا، وفي أحد الأيام الشاقة وبعد أن أنهت السيدة ليا عملها في أحد البيوت واشترت الطعام.
وعادت في طريقها إلى زوجها المريض تعرض لها شخص ما، بدا وكأنه طبيب فقال لها إنني طبيب مستعد أن أشفي زوجك على أن يقول انني شفيته ولا أحد سواي فجاءت السيدة ليا إلى زوجها نبى الله أيوب وأخبرته بما حدث لها، فعرف نبى الله أيوب أنه الشيطان جاء متخفيا في صورة طبيب يريد أن ينسب فضل الشفاء لنفسه ولا شفاء إلا من عند الله فعلم نبى الله أيوب ذلك فغضب من زوجته غضبا شديدا فأقسم أنه لو شفي ليضربنها مائة ضربة، وقد اشتد المرض على نبى الله أيوب وسرت شائعة أن مرضه مرضا معديا لذلك اتفق أهل البلدة أن يخرجوه خارجها ويضعوه في مكان مهين بجوار أماكن تجمع القمامه والقاذورات، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من اخوته كانا من أخص إخوانه له كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين.
فقال صاحبه وما ذاك قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه
ربه فيكشف ما به" وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له ووصل بهم الأمر إلا أنهم حدثوه بذلك فجزع نبى الله أيوب كثيرا فاشتد همه ومرضه، وتفاقمت الحالة بالسيدة ليا وانتشرت شائعة عدوى مرض زوجها وخشيت البيوت على نفسها من المرض فرفضت أن تستخدمها وأغلقت الأبواب أمامها وكانت ضفائر السيدة ليا ذات صيت كبير في بيت الأغنياء ومعروفة لديهم بأنها الجميلة ذات الشعر الطويل فلما ضاقت الأحوال في وجهها لم تجد سبيلا إلى أن تبيع إحدى ضفائرها لسيدة من السيدات الأغنياء التي طالما ألحت عليها في ذلك، وقبضت زوجة أيوب ثمن بيع إحدى ضفائرها وجاءت بطعام طيب كثير إلى زوجها فتعجب أيوب من ذلك وسألها من أين لك بهذا الطعام الغالي الثمن فلم تخبره ولكنها طلبت منه أن يدعو ربه فأجابها نبى الله أيوب عليه السلام.
بأنه يستحي من الله سبحانه وتعالى الذي أحياه سبعين عاما بلا داء ولا مرض فقال لها الحمد لله الذي جعل لي لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا وجاء اليوم التالي ففعلت مثلما فعلت اليوم الذي قبله فباعت ضفيرتها الثانية، فقد باعت شعرها وتاج جمالها من أجل أن تطعم الزوج والحبيب، يا لها من لحظات عصيبة مرت بتلك السيدة العظيمة التي لم يستطع اليأس أن يتسرب إلى نفسها ولا القنوط أن يدق بابها بل ظلت مؤمنة صابرة محتسبة وقدمت كل ما تملك حتى ضفائرها، ولم تعرف السيدة رحمة ما سوف تفعله غدا أو كيف سيؤول الحال بها فلا عمل يطلبها ولا شعر لديها تبيعه ويا عجب ما شعرت به أنها شعرت براحة غريبة ورضا عن نفسها وما صنعته من أجل زوجها ولعل غدا يأتيها الله بالفرج القريب، وعندما أتت السيدة ليا إلى زوجها بطعام طيب كاليوم السابق أعاد نبي الله سؤاله عليها مرة أخرى مستفسرا عن مصدر المال واستنكر الطعام وحلف ألا يأكله حتى تخبره من أين لها بهذا الطعام.
إرسال تعليق